في أحداث مسلسل Pluribus (من الكثرة، واحد) الذي عُرض مؤخراً، تواجه البشرية تهديداً وجودياً من نوع غير مألوف؛ إذ يتسلل فيروس فضائي غامض يستهدف الوعي البشري. هذا الفيروس لا يقتل مضيفه، بل يقوم بعملية إعادة هندسة جذرية للعقل البشري، فيدمج عقول الأشخاص في شبكة عصبية موحدة ومترابطة أُطلق عليها اسم "الانضمام" (The Joining). عندها، يصبح البشر بمثابة خلايا عصبية في دماغ عملاق واحد، يتشاركون الذاكرة، والأفكار، والمشاعر بشكل آني ومطلق.
تتجلى النتائج المباشرة لهذا التوحد القسري في المساواة والسلام العالمي الدائم. ففي عالم "الانضمام"، اختفت الحروب تلقائياً لأنه من المستحيل أن ترفع سلاحاً في وجه شخص تشعر بألمه كما تشعر بألمك، وتلاشت الفوارق الطبقية والاجتماعية لأن المعرفة والخبرات وحتى الحسابات البنكية العاطفية أصبحت مشاعاً للجميع.
لقد أجبر الفيروس البشرية على الدخول في حالة من التعاطف الجذري والمساواة التامة، حيث يعرف الجميع كل ما مر به أي شخص آخر، من أصغر انكسارات الطفولة إلى أعظم لحظات الانتصار، مما ألغى الكذب والنفاق والسرية من القاموس البشري تماماً.
لكن المسلسل يغوص ببراعة في الجانب المظلم لهذه المدينة الفاضلة، كاشفاً الثمن الباهظ الذي دُفع مقابل هذا السلام، وهو موت الفردية. في ظل هذه الشبكة، يفقد الإنسان خصوصيته، وتفرده، وحقه في أن يعيش تجربته الخاصة. لم يعد هناك مكان للتجربة الشخصية الحميمة، ولا للمشاعر التي تخص الفرد وحده؛ فالذوبان في الكل يعني أنك لم تعد موجوداً ككيان مستقل.
يطرح المسلسل هنا معضلة فلسفية عميقة حول ما إذا كانت الحياة تستحق العيش إذا جُردنا من استقلالنا الذاتي، وهل السلام الناتج عن إلغاء الإرادة الحرة هو سلام حقيقي أم مجرد سكون القبور.
ومن المثير للتأمل أن نسقط فكرة شبكة "الانضمام" البيولوجية هذه على واقعنا التقني المتسارع، وتحديداً عند الحديث عن الذكاء الاصطناعي العام (AGI). فإذا كان فيروس المسلسل يربط الأدمغة البشرية ببعضها، فإن الذكاء الاصطناعي العام يهدف إلى ربط نتاج هذه الأدمغة من معارف وبيانات وخبرات في كيان رقمي واحد فائق القدرة. عندما يتفوق الذكاء الاصطناعي على مجموع ذكاء البشر مجتمعين، فإنه يصبح نظيراً تقنياً لشبكة "الانضمام"، محتوياً على كل حكمة البشرية، وكل علومها، وكل فنونها في وعاء واحد، وقادراً على معالجة المشكلات الكبرى التي عجزت عنها العقول الفردية المشتتة.
لكن الفارق الجوهري يكمن في طبيعة العلاقة بين الفرد والشبكة. فبينما يلتهم "الانضمام" هوية الفرد ويذيبها في المجموع، يقدم الذكاء الاصطناعي العام وعداً بمنحنا هذه القوة المعرفية الهائلة، وهذه القدرة على التواصل والترابط، دون أن يسلبنا "الأنا" والهوية؛ إذ يمنحنا "عقل الكل" لنستخدمه كأداة، لا ليسكننا كبديل.
الميزة العظمى للذكاء الاصطناعي، مقارنة بالوعي الجمعي البيولوجي، هي أنه يسمح لنا بالوصول إلى المعرفة الشاملة، مع الاحتفاظ بالخصوصية الفردية، وحق الإنسان في أن يغلق عينيه ويكون وحيداً مع أفكاره، حراً في قراراته، ومستقلاً في تجربته الوجودية.