كيف تحولت الإنترنت من شبكة لامركزية إلى شبكة مفرطة في المركزية؟

بقلم:   تامر كرم           |  Dec. 13, 2025

internet

صُممت الإنترنت لتكون شبكة عصية على التدمير، شبكة لا يوجد فيها رأس واحد يمكن قطعه لتموت البقية. في جوهرها الهندسي، لا تزال الإنترنت اليوم وفية لهذا المبدأ؛ فهي تعتمد على حزمة بروتوكولات (TCP/IP) التي تُقسم البيانات إلى أجزاء صغيرة تسافر بشكل مستقل عبر آلاف المسارات المتاحة، ولا تعتمد على مسار واحد ثابت. وبروتوكولات التوجيه مثل (BGP) لا تزال تضمن أنه في حال انقطاع كابل بحري أو تعطل عقدة اتصال في دولة ما، فإن الشبكة تعيد توجيه البيانات تلقائياً عبر مسار بديل. فالبنية التحتية "الإنترنت" كطرق وكابلات وبروتوكولات اتصال، لا تزال لامركزية وقوية كما كانت في بداياتها.

لكن ما تغير جذرياً هو الويب؛ الطبقة التي بنيناها فوق تلك الطرق. في البدايات، كانت فلسفة الويب (الويب 1.0) قائمة على المساواة المطلقة بين الأجهزة؛ فكل حاسوب متصل بالشبكة كان بإمكانه نظرياً أن يكون مرسلاً ومستقبلاً، ويستضيف موقعاً إلكترونياً يراه الجميع دون وسيط.

هذا الواقع "الند للند" تلاشى تدريجياً مع ظهور "الويب 2.0" والخدمات السحابية، حيث تحول النموذج إلى "العميل والخادم" بشكل متطرف. بدلاً من استضافة المواقع والبيانات على ملايين الخوادم الصغيرة الموزعة، هاجرت خدمات الويب لتتكدس داخل مراكز بيانات عملاقة تملكها قلة من الشركات المحتكرة مثل أمازون (AWS) وجوجل ومايكروسوفت.

هذا التكدس خلق مركزية مفرطة في الطبقة العليا للشبكة؛ فبينما الطرق (الإنترنت) مفتوحة ومتعددة، أصبحت الوجهات (الويب) محصورة في نقاط محددة. اليوم، تمر الغالبية العظمى من حركة المرور عبر خوادم وتطبيقات منصات مغلقة مثل فيسبوك، يوتيوب، وتيك توك. في هذا النموذج، لا يتصل المستخدمون ببعضهم مباشرة، بل يجب أن تمر كل رسالة أو صورة عبر خوادم الشركة المالكة أولاً.

هذا يعني أنه رغم أن الإنترنت تعمل ولا يمكن إيقافها بسهولة، فإن تعطل خادم سحابي واحد لشركة مثل أمازون كفيل بإيقاف نصف خدمات الويب التي نستخدمها، من بنوك وتطبيقات توصيل ومواقع إخبارية.

وتكتمل هذه المركزية بوجود نقاط التحكم مثل نظام "أسماء النطاقات" (DNS) ومزودي خدمة الإنترنت (ISPs). فهؤلاء يتحكمون في بوابات الدخول إلى الويب. وهكذا، نعيش اليوم في حالة انفصام تقني: نحن نستخدم بنية تحتية (الإنترنت) صُممت لتكون حرة ولا مركزية، لكننا نستهلك من خلالها خدمات (الويب) التي أصبحت شديدة المركزية والاحتكار، مما جعل الشبكة في مظهرها وتجربتها اليومية أبعد ما تكون عن الحلم اللامركزي الذي بدأت به.



مشاركة