في صيف عام 1956، وضع مؤتمر تاريخي في كلية دارتموث حجر الأساس لمجال جديد وطموح، أطلق عليه منظمه، جون مكارثي، اسم "الذكاء الاصطناعي". لم يكن مكارثي وحده، بل شاركه الرؤية رواد آخرون مثل مارفن مينسكي، وآلين نيويل، وهربرت سيمون.
كانت فلسفتهم الأساسية تتمحور حول فكرة أن الذكاء البشري، بكل تعقيداته، يمكن وصفه بدقة كافية بحيث تستطيع الآلة محاكاته. انطلق هؤلاء المؤسسون من فرضية أن الذكاء ينبع من المنطق والتمثيل الرمزي للمعرفة، حيث يمكن بناء آلات "مُفكِّرة" عبر تزويدها بمعارف منظمة وقواعد منطقية تستنتج منها المعلومات بشكل يمكن تفسيره والتحكم فيه.
لقد تركزت جهودهم على ما يُعرف اليوم بـ "الذكاء الرمزي" أو "الذكاء الاصطناعي التقليدي" (GOFAI). لكن هذا النهج واجه عقبة كبرى؛ فقد كانت هذه الأنظمة هشة في مواجهة العالم الحقيقي المليء بالغموض والبيانات غير المهيكلة، كما تطلبت برمجة يدوية لكل قاعدة، مما جعلها غير قادرة على التوسع أو التعلم من التجربة والبيانات.
ومع تضاعف القدرات الحاسوبية وتوفر كميات هائلة من البيانات، بزغ فجر نهج مختلف تماماً: التعلم الآلي والشبكات العصبونية. كان المؤسسون الأوائل يرون هذه التقنيات مجرد أدوات إحصائية، ويعتقدون أنها غير قادرة على إنتاج ذكاء حقيقي لأن قراراتها لا يمكن تفسيرها بنفس وضوح النهج الذي اتبعوه. فعلى عكس المنطق الرمزي، لا تعتمد هذه التقنيات على قواعد مبرمجة مسبقاً، بل "تتعلم" الأنماط والعلاقات مباشرة من البيانات.
ورغم أن فكرة الشبكات العصبونية، المستوحاة من بنية الدماغ البشري، كانت موجودة منذ أيام الرواد، إلا أنها لم تزدهر إلا بعد توفر القوة الحسابية اللازمة لتدريب نماذج ضخمة، وهو ما يُعرف اليوم بـ "التعلم العميق". هذا النموذج هو الذي قاد مباشرة إلى الثورة التي نشهدها اليوم، حيث أن أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة مثل ChatGPT من OpenAI وGemini من Google، ليست نتاجاً للمنطق الرمزي، بل هي ثمرة تطور الشبكات العصبونية وقدرتها الفائقة على معالجة اللغة الطبيعية.
وهكذا، لم يرفض مؤسسو الذكاء الاصطناعي فكرة التعلم الآلي، لكنهم نظروا إليه من زاوية منطقية بحتة ولم يتصوروا أن الذكاء يمكن أن ينبثق من التحليل الإحصائي للبيانات.
ورغم أن نهجهم الرمزي لم يحقق النجاح العملي الذي حققه التعلم العميق، إلا أن أفكارهم حول المنطق والتفسير لم تندثر تماماً ومن الخطأ تكرار خطأهم وعدم منح الطرق الأخرى فرصة. فهناك محاولات جادة لتطوير الذكاء الهجين، وهو دمج يجمع بين قدرة الشبكات العصبونية على التعلم من البيانات وقدرة الذكاء الرمزي على التفكير المنطقي الواضح. ويهدف هذا السعي إلى الوصول إلى ذكاء اصطناعي عام لا يكتفي بالتعرف على الأنماط، بل يفهم ويستنتج ويشرح قراراته، محققاً بذلك حلم الرواد الأوائل ولكن بأدوات لم تكن في حسبانهم.